حين يرحل الأب: فرنسا تخسر أكثر من مدرب
قبل أشهر قليلة، أعلن ديدييه ديشامب أنه سيغادر تدريب المنتخب الفرنسي بعد نهاية كأس العالم 2026. ورغم أن القرار لم يكن مفاجئًا تمامًا، إلا أن صداه كان قويًا، لأن ديشامب لم يكن مجرد مدرب بالنسبة للفرنسيين. كان يمثل شيئًا أكبر، أقرب إلى رمز استمر لأكثر من عقد، قاد خلاله منتخب "الديوك" في لحظات مجد ولحظات صعبة، وكان دائمًا جزءًا من الصورة، في الخلفية أو في المقدمة، لكنه لم يغب أبدًا.
أكثر من مدرب.. شخصية جامعة
ديدييه ديشامب قاد منتخب فرنسا إلى لقب كأس العالم 2018، ووصل معهم إلى نهائي كأس العالم 2022، وكان حاضرًا في نهائي يورو 2016. نتائج كبيرة تؤكد قيمته كمدرب، لكن الأهم من الأرقام هو الاستقرار الذي منحه للمنتخب. وسط تغير المدربين، وأجيال اللاعبين، والخلافات الإعلامية، ظل ديشامب هو الشخص الذي يمكن الاعتماد عليه. لاعبون مثل مبابي، جريزمان، كانتي، بوغبا، وحتى الجيل الجديد، نشأوا كرويًا في ظل وجوده.
اللافت أنه كان يعرف كيف يدير المجموعة، كيف يحتوي النجوم، وكيف يسيطر على الغرف المغلقة. في فرق المنتخبات، الانسجام النفسي لا يقل أهمية عن التكتيك، وديشامب كان بارعًا في هذا الجانب.
الجيل الجديد.. والانتقال الصعب
المنتخب الفرنسي الحالي مليء بالمواهب الشابة: كامافينجا، تشواميني، كولو مواني، أوباميكانو، والعديد غيرهم. لكن هذا الجيل اعتاد على وجود ديشامب كمرجع دائم. رحيله قد يفتح الباب أمام تغييرات كبيرة، ليس فقط على مستوى المدرب، ولكن على صعيد طريقة التفكير داخل الفريق.
هذا الجيل مختلف عن جيل 2018. أكثر تحررًا، أكثر رغبة في الإبداع، وأقل ميلًا للانضباط التكتيكي الصارم الذي ميز طريقة لعب ديشامب. وهذا ما يطرح سؤالًا مهمًا: هل الوقت مناسب لتغيير الأسلوب؟ وهل المنتخب بحاجة لمدرب جديد يقدم كرة هجومية أكثر؟ أم أن هذا التغيير قد يُفقد الفريق توازنه الدفاعي؟
زيدان... الوريث المنتظر؟
كل الطرق تشير إلى أن زين الدين زيدان هو المرشح الأبرز لخلافة ديشامب. زيدان اسم كبير في فرنسا، ويحظى باحترام اللاعبين والجماهير على حد سواء. لكنه لم يكن قريبًا من الفريق خلال السنوات الماضية. لم يكن جزءًا من يوميات المنتخب، ولم يعرف ديناميكية المجموعة من الداخل.
زيدان سيأتي بمشروع جديد، وأسلوب مختلف، وشخصية أخرى. هو أقرب إلى القائد الفني من "المربي" الذي كانه ديشامب. وهذه النقطة ستكون حاسمة: هل يتقبل اللاعبون التغيير؟ وهل يستطيع زيدان إدارة فريق مختلف تمامًا عن ريال مدريد الذي قاده من قبل؟
التحدي الأكبر: إدارة المرحلة الانتقالية
الخطأ الأكبر الذي يمكن أن تقع فيه فرنسا بعد ديشامب هو التسرع أو محاولة محو المرحلة السابقة بالكامل. الفريق بحاجة إلى انتقال سلس، يحترم ما تم بناؤه، ويمنح المدرب الجديد وقتًا كافيًا لفهم المجموعة والتأقلم معها.
الخطر الحقيقي ليس فنيًا فقط، بل نفسي. عندما يغيب القائد، تظهر فجوة في التوازن، ويبدأ البعض بالتحرك بشكل فردي. اللاعبون الكبار مثل مبابي قد يحاولون التأثير أكثر، وقد تحدث اختلافات داخل المعسكر إذا لم يتم ضبط الأمور من البداية.
أكثر من مجرد وداع
رحيل ديشامب لا يشبه رحيل أي مدرب آخر. إنه نهاية مرحلة استمرت أكثر من 10 سنوات، وتمثل حقبة كاملة في تاريخ الكرة الفرنسية. هو المدرب الذي جلب الاستقرار، ووضع المنتخب دائمًا في دائرة المنافسة، ولم يسقط أبدًا بشكل كارثي رغم الضغوط والتوقعات.
المنتخب الفرنسي الآن أمام تحدٍ حقيقي: كيف يحافظ على استقراره الفني والنفسي في ظل هذا التغيير الكبير؟ وهل يكون زيدان هو الرجل المناسب لهذه المهمة؟ أم أن شخصية ديشامب ستظل حاضرة في المقارنة، وتُثقِل كاهل من يأتي بعده؟
الجواب لن يكون سهلًا، لكن المؤكد أن رحيل ديشامب سيظل حدثًا فارقًا في تاريخ الكرة الفرنسية. ليس لأنه مدرب عظيم فقط، بل لأنه كان بمثابة الأب الذي عرف متى يحمي، ومتى يترك الفرصة لأبنائه ليقفوا بمفردهم.