بين الثقة والخطة الكبرى: فينيسيوس أولًا، مبابي ثانيًا، وبيلينغهام ثالثًا... فلسفة أنشيلوتي في ركلات الجزاء تكشف الكثير عن ريال مدريد الجديد
في كرة القدم، لا يقتصر تنفيذ ركلات الجزاء على تسجيل هدف من على بعد أحد عشر مترًا. بل هو اختبارٌ للثقة، والقيادة، ورباطة الجأش في لحظات الضغط القصوى. وقد جاءت تصريحات كارلو أنشيلوتي، المدير الفني لريال مدريد، الأخيرة حول ترتيب منفذي ركلات الجزاء لتكشف عن أبعاد أعمق من مجرد توزيع للأدوار: إنها خريطة نفسية وفنية لاستراتيجية ريال مدريد في الموسم القادم، وخطوة تمهيدية لفهم من سيقود المشروع الرياضي الجديد في مرحلة ما بعد بنزيمة وكروس ومودريتش.
فينيسيوس جونيور... من الجناح المتردد إلى قائد المسؤوليات
حين وصل فينيسيوس جونيور إلى ريال مدريد صيف عام 2018، كان مراهقًا برازيليًا مشبعًا بالموهبة، لكن دون إطار واضح لصقلها. مرّت عليه سنوات من الانتقادات بسبب افتقاده للمسة الأخيرة وتسرعه في إنهاء الهجمات. لكن في موسم 2021–2022، تحوّل تمامًا، وساهم بقوة في تتويج ريال مدريد بدوري أبطال أوروبا. ومنذ ذلك الحين، بدأ يتحول من مجرد جناح سريع إلى لاعب قيادي داخل الملعب.
تصريحات أنشيلوتي التي وضعته في صدارة منفذي ركلات الجزاء ليست فقط إقرارًا بمهاراته الفنية، بل إشارة واضحة إلى تحوله الذهني والنضوج الكبير الذي بلغه. فالمدرب الإيطالي، الذي يشتهر بقراراته الهادئة والمدروسة، لا يمنح مثل هذه الأدوار دون سبب. إن اختيار فينيسيوس يدل على ثقته العميقة في قدرته على التعامل مع المواقف الحاسمة، ليس فقط بتسجيل الأهداف، بل بإرسال رسالة إلى الفريق والجماهير: "أنا هنا لأتحمل المسؤولية."
كما أن وضع فينيسيوس في هذا الدور يعزز موقعه الرمزي داخل الفريق بعد رحيل قادة كبار. إنه اللاعب الذي ترعرع داخل مدريد، وتعلم قيم النادي، وآن الأوان لأن يكون هو وجه المرحلة المقبلة.
مبابي... نجمٌ قادم بمهاراته، لكن القيادة تُكتسب
من جهة أخرى، فإن كيليان مبابي، المنضم حديثًا إلى ريال مدريد، يتمتع بكل المقومات ليكون القائد الهجومي للنادي الملكي: السرعة، الذكاء، القدرة على التسجيل من أي مكان في الملعب، والأهم من ذلك، خبرته الدولية رغم صغر سنه. ورغم أنه قاد منتخب فرنسا للفوز بكأس العالم وسجّل "هاتريك" في نهائي مونديال 2022، فإن أنشيلوتي وضعه في المرتبة الثانية بعد فينيسيوس.
هذا القرار يعبّر عن رؤية واضحة: في ريال مدريد، النجومية لا تُعطى، بل تُكسب. صحيح أن مبابي قادم بإرث ضخم من باريس سان جيرمان وبمكانة نجم عالمي، لكن الدمج داخل منظومة الفريق يتطلب وقتًا وثقة متبادلة، تبدأ من التدرج في الأدوار.
وربما أراد أنشيلوتي من خلال هذا الترتيب إرسال رسالة داخلية لمبابي: "مكانتك مضمونة، لكن عليك أن تندمج وتثبت أنك لست فقط نجمًا فرديًا، بل قائدًا جماعيًا." وهو نهج يتسق مع فلسفة ريال مدريد التي لا تعتمد فقط على الأسماء، بل على التضحيات داخل المستطيل الأخضر.
بيلينغهام... القوة الهادئة التي لا تُهمّش
أما جود بيلينغهام، الذي فاجأ الجميع بمستوياته المذهلة منذ قدومه من بوروسيا دورتموند، فحلوله في المركز الثالث لا يعني تقليلًا من قيمته. بل على العكس، يُعد امتدادًا لفلسفة أنشيلوتي في توزيع المسؤوليات. فبيلينغهام لاعب وسط هجومي يمتاز بقدرة كبيرة على التهديف من خارج منطقة الجزاء، وبالركض في المساحات، وبالتحكم برتم المباراة. لكنه لم يُعرف بعد كمتخصص في ركلات الجزاء.
وهنا يبدو أن أنشيلوتي يمنحه دورًا تكميليًا مهمًا، دون تحميله مسؤوليات أكبر قد تؤثر على تركيزه في العمق. كما أن وجوده في قائمة المنفذين يعكس احترام المدرب لذكائه التكتيكي وقدرته على اتخاذ القرارات السليمة تحت الضغط.
قراءة تكتيكية: لماذا يُعد ترتيب الركلات بهذا الشكل منطقيًا؟
أنشيلوتي ليس من المدربين الذين يصدرون قراراتهم بناءً على المزاج أو الأهواء. بل هو مدرب تجريبي، يُراقب الأداء في التدريبات والمباريات، ويستشير مساعديه، ثم يقرّر. ولذلك فإن ترتيب المنفذين يبدو وكأنه جزء من خطة فنية كاملة.
فينيسيوس، كأول منفذ، يملك قدرة عالية على المراوغة وكسب ركلات الجزاء. وبمنحه الأولوية في التنفيذ، يكون لديه الدافع الأكبر للاستمرار في أسلوبه الهجومي، مع شعور داخلي بالمسؤولية.
مبابي، الذي يلعب عادة كرأس حربة أو جناح أيمن، قد لا يكون هو الأكثر حصولًا على ركلات الجزاء بنفسه، لكنه الأفضل في تنفيذها عندما تتطلب دقة قاتلة.
أما بيلينغهام، فيُشكّل الورقة الثالثة، التي يمكن اللجوء إليها في حال غياب الاثنين، أو في مباريات تتطلب تنوعًا في التنفيذ.
الجانب النفسي: ماذا يقول هذا الترتيب عن غرفة الملابس؟
في نادٍ بحجم ريال مدريد، توزيع الأدوار الحساسة مثل ركلات الجزاء يمكن أن يشعل التوترات إذا لم يتم بحكمة. وبهذا الترتيب، يبدو أن أنشيلوتي نجح في تحقيق التوازن بين إرضاء النجوم الجدد، وتكريس زعامة النجوم القدامى، دون خلق صراعات.
فمنح الأولوية لفينيسيوس يكرّس مكانته كأحد رموز المشروع الرياضي الحالي، دون تهميش مبابي أو بيلينغهام. بل هو يعطي كل لاعب قدرًا من المسؤولية يتناسب مع وضعه الحالي في الفريق، ويوفّر أرضية صحية لتكامل الأدوار دون تنافس سلبي.
ماذا بعد؟ التحدي الأكبر يبدأ عند التنفيذ
بطبيعة الحال، يبقى التحدي الحقيقي في التطبيق داخل الملعب. فالتوترات، وضغط المباريات، والاختلافات اللحظية قد تغيّر التنفيذ الفعلي لما خُطط له مسبقًا. وقد يشهد الموسم حالات يتقدم فيها مبابي لتنفيذ ركلة بدلاً من فينيسيوس، أو يطالب بيلينغهام بالمهمة في لحظة يشعر فيها بالثقة. وهنا يظهر المعدن الحقيقي للاعبين، وقدرتهم على احترام قرارات الفريق وقيادة أنفسهم بانضباط.
فلسفة أنشيلوتي تتجاوز ركلة جزاء
في نهاية المطاف، فإن ترتيب منفذي ركلات الجزاء ليس مجرد قرار فني، بل فصلٌ جديد في رواية ريال مدريد، يُكتب فيه مستقبل القيادة داخل الفريق، وتُرسم فيه ملامح الحقبة القادمة. وقد تكون هذه الركلات هي الجسر الذي ينقل الفريق من جيل مودريتش وكروس وبنزيمة، إلى جيل فينيسيوس، مبابي، وبيلينغهام.
أنشيلوتي لم يختر فقط من يسدد، بل اختار من يقود.