حين تتحول صافرة الحكم إلى هدف… صرخة مونويرا مونتيرو من قلب العاصفة
في زمن أصبحت فيه كرة القدم أكثر من مجرد تسعين دقيقة على العشب، بل عالمًا مشحونًا بالعواطف والانفعالات وحتى الصراعات، يخرج الحكم الإسباني مونويرا مونتيرو من خلف الكواليس ليكشف عن معاناة صامتة عاشها مؤخرًا، بعدما وجد نفسه في قلب إعصار من التهديدات والإهانات، فقط لأنه أدّى وظيفته داخل المستطيل الأخضر.
ليست هذه المرة الأولى التي يُنتقد فيها حكم، ولكنها من المرات النادرة التي يتحدث فيها حكمٌ بهذا القدر من الصراحة والوجع عن حجم الهجوم الذي يتعرض له بعد قرار واحد، حين أشهر البطاقة الحمراء في وجه نجم ريال مدريد، جود بيلينغهام.
ما بعد الصافرة… بداية الكابوس
لم يكن يتوقع مونتيرو أن قرارًا تحكيميًا – مهما بلغت حساسيته – سيفتح عليه أبواب الجحيم. فبعد طرده لبيلينغهام، بدأ سيلٌ من الرسائل يتدفق إلى حساباته الشخصية، بعضها نقد، وبعضها الآخر تهديدات مباشرة، وإهانات طالت كل ما هو شخصي وعائلي.
"استقبلت آلاف الرسائل، ليس من مجرد مشجعين غاضبين، بل من أشخاص فقدوا كل حس أخلاقي. الشتائم لم تكن موجهة فقط إلي، بل وصلت إلى أهلي، إخوتي، وحتى والدي العجوز." هكذا عبّر مونتيرو عن معاناته، في كلمات يختلط فيها الغضب بالحزن، والخذلان بالخوف.
بين الغضب والمطاردة: العائلة في مرمى الهجوم
حين سُئل عن تفاصيل تلك المعاناة، كانت نبرته أكثر حزنًا من أي وقت مضى. قال:
"أبي، الذي تجاوز الثمانين عامًا، ذهب كعادته إلى الكنيسة ليصلي… فتعرض للمضايقات هناك. أمي أيضًا لم تسلم من الألفاظ النابية، وحتى إخوتي التسعة تلقوا رسائل تفيض بالكراهية."
من الواضح أن ما حصل لم يكن مجرد هجوم على حكم، بل اعتداء على كيان إنساني له أسرته وكرامته وحدوده، اعتداء جعل من لعبة يفترض أن تكون مساحة للفرح، وسيلةً لبث العنف والخوف.
حساب مغلق… وعزلة اضطرارية
من شدة الضغط، اتخذ مونتيرو قرارًا بإغلاق حسابه المهني على "لينكد إن"، وهو منصة عادةً ما يُستخدمها المحترفون في مجالات العمل. لكن في حالته، أصبحت ساحة لهجومٍ لا ينتهي.
"هل أغلقت الحساب بدافع الخوف؟ لا. لكنني فعلت ذلك من أجل حماية نفسي وعائلتي. لم أعد أستطيع التفاعل هناك، لم أعد أشعر بالأمان."
ربما لا يدرك كثيرون أن الحكام ليسوا روبوتات، بل بشر، يتأثرون، يتألمون، ولهم حدود في التحمل. إغلاق الحساب لم يكن هروبًا، بل شكل من أشكال الدفاع عن النفس في وجه تسونامي من العنف الرقمي.
الابتعاد عن المباريات… راحة أم انكسار؟
في خطوة نادرة، أعلن الحكم الإسباني أنه لن يُدير أي مباراة خلال هذا الأسبوع، في إشارة واضحة إلى أن ما مرّ به لم يكن مجرد خلاف رياضي، بل أزمة نفسية حقيقية.
"أحتاج إلى وقت. ليس فقط لاستعادة توازني، بل لحماية عقلي وراحتي الداخلية. لقد تجاوزت الأمور كل الحدود."
قرار مثل هذا قد يُفسَّر على أنه انكسار، لكنه في الواقع تعبير عن وعي وشجاعة، إذ قرر أن يضع صحته النفسية فوق أي اعتبار، حتى لو كلّفه ذلك التوقف مؤقتًا عن مهنته.
"أي رياضة نصنع؟"
وفي عبارةٍ مؤثرة تختصر كل شيء، تساءل مونتيرو بصوتٍ يملؤه الأسى:
"أي نوع من الرياضة نصنع اليوم؟ هل هذه كرة قدم؟ هل صرنا نبرر الكراهية والتهديد لمجرد أن فريقًا ما خسر، أو لاعبًا تم طرده؟"
هذا السؤال ليس استفهامًا بسيطًا، بل طعنة موجّهة إلى ضمير كل من ساهم – بقصد أو بدونه – في خلق بيئة سامة، تُجرّم الحكم لمجرد قيامه بعمله، وتُحلل استباحة حياته الخاصة.
مشكلة أخلاقية قبل أن تكون رياضية
تصريحات مونتيرو تفتح الباب أمام نقاش أوسع بكثير من مجرد "خطأ تحكيمي". ما كشف عنه الحكم الإسباني ليس حادثًا معزولًا، بل انعكاس لوضع مقلق يتنامى في كرة القدم الحديثة، حيث أصبحت لغة العنف هي الأسرع انتشارًا، والحكم هو الحلقة الأضعف.
لقد تحولت مواقع التواصل الاجتماعي إلى أدوات للمطاردة، بدلًا من أن تكون منصات للتفاعل البنّاء. وأصبحت أخطاء الحكام، مهما كانت طبيعية أو حتى محتملة، تُقابل بحملات تشويه وتجريح تطالهم هم وأسرهم، وتُهدد أمنهم الشخصي.
بين الإعلام والجماهير… من يصبّ الزيت؟
في خضم هذه العاصفة، لا يمكن تجاهل الدور السلبي لبعض وسائل الإعلام، التي تسارع في توجيه الاتهامات وتضخيم الوقائع، دون مراعاة لتبعات كلماتهم على الأشخاص.
كما أن الجماهير – مدفوعة بالغضب أو التعصب – لا تتورع عن استخدام أي وسيلة للإساءة، دون وعي بأن الطرف الآخر ليس آلة، بل إنسان له مشاعر وحدود.
نداء إلى المنظومة الكروية كلها
ما كشفه مونتيرو يجب ألا يمرّ مرور الكرام. فالمطلوب ليس فقط التضامن معه، بل اتخاذ خطوات حقيقية لحماية الحكام من هذا النوع من العنف.
الاتحاد الإسباني، ورابطة الليغا، وحتى الأندية الكبرى، عليهم أن يتحملوا مسؤولياتهم. لا يكفي الصمت، ولا تجوز المواربة.
كرة القدم لا يجب أن تُقتل بالكراهية
في نهاية المطاف، تظل كرة القدم لعبةً، حتى وإن بلغت ذروة التنافس. جمالها في الاختلاف، في الحماس، في التفاعل. لكن حين يُصبح الحكم عدوًا، ويُصبح الخطأ التحكيمي ذريعةً للتهديد والإهانة، فإن شيئًا ما قد انكسر في روح الرياضة.
ما عبّر عنه مونويرا مونتيرو هو ناقوس خطر يجب أن يسمعه الجميع، من مشجعٍ يجلس خلف شاشته، إلى نجم على أرض الملعب، إلى إعلاميٍّ يحمل القلم والميكروفون. الجميع معنيّون بإعادة الاعتبار للروح الرياضية… قبل أن يفوت الأوان.